سورة النمل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{قَالَ يَاأَيُّهَا الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} قالَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصَّلاة والسَّلام. يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام، قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لنا به من طاقةٌ، وبعثتْ إلى سُليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ فشخصتْ إليه في اثني عشرَ ألفاً قيل: تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيمِ قدرتِه تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا. وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى: {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدلُّ على عظمِ قُدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها. وقيلَ: لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ مالِها بغيرِ رِضَاها.
{قَالَ عِفْرِيتٌ} أي ماردٌ خبيثٌ {مّن الجن} بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخراً {أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ} أي بعرشِها {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار. وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ {وَإِنّى عَلَيْهِ} أي على الإتيانِ به {لَقَوِىٌّ} لا يثقلُ عليَّ حملُه {أَمِينٌ} لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه.
{قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ، ومقاليهما وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ من كمال التباينِ، أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ. قيلَ هو آصِفُ بنُ بَرَخياً وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام، وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ به عليهم السَّلام، وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ، وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيءٍ وارتدادُه انضمامُهما ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدةٌ كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عن الإخبارِ به وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عز وجل: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه إلخ فحذفَ ما حُذف لما ذُكر وللإيذانِ بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً، وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيِه من الدِّلالةِ على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه {قَالَ} أيْ سليمانُ عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسِه من أنبياِ الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه {هذا} أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ: {مِن فَضْلِ رَبّى} أي تفضله عليَّ من غيرِ استحقاقٍ له من قِبلَي: {لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ} بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه {أَمْ أَكْفُرُ} بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويُستجلبُ به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ {وَمَن كَفَرَ} أيْ لم يشكُرْ {فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ} عن شُكرهِ {كَرِيمٌ} بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً.


{قَالَ} أي سليمانُ عليهِ السَّلام، كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من بابِ الشكرِ رِ تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوهِ {نَنظُرْ} الجزمُ على أنَّه جوابُ الأمرِ. وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ {أَتَهْتَدِى} إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام، وقيل: إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ {أَمْ تَكُونُ} أي بالنسبةِ إلى علمنا {مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} أي إلى ما ذُكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كانَ أمراً مستوراً لكن كونُها منهم عند سليمانَ عليهِ السَّلامُ وقومِه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ.


{فَلَمَّا جَاءتْ} شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السَّلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السَّلام وقد كانَ العرشُ بين يديِه {قِيلَ} أي من جهةِ سُليمانَ عليه السَّلامُ بالذاتِ أو بالواسطةِ {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلاَّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بسخافةِ العقلِ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ، وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} بيانٌ من جهتِه تعالَى لمَّا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ، وقولُه تعالى: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمانَ عليهِ والسَّلامُ. وقرئ: {أنَّها} بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ. هذا وأمَّا ما قيلَ من أنَّ قولَه تعالى: {وَأُوتِينَا العلم} إلى قولِه تعالى: {مِن قَوْمٍ كافرين} من كلامِ سليمانَ عليه السَّلامُ وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ إلخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقدرتِه وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فممَّا لا يَخْفى ما فيهِ من البُعدِ والتعسفِ.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9